الرئيسية / غير مصنف / يا «ريحة» الصبر

يا «ريحة» الصبر

محمد محيسن
وكأنها ايام او ساعات تلك التي امضاها خارج حدود الوطن، فقد كان مسكونا بقريته الصغيرة التي هجرها
في ريعان الشباب، وتركت فيه جرحا غائرا طالما بقي محورا لانفعالاته، ومصدرا مستمرا لسرد الذكريات.
الحديث عن تلك الانفعالات لم يتوقف حتى قبل رحيله عن الدنيا بأيام معدودة، ففلسطين المكان ورائحة الصبر، وفلسطين القضية التي بلغت من العمر عتيًّا بقيت حاضرة معهم اينما حلوا وارتحلوا.
ورغم استمرار متوالية التداعي والخذلان والتراجع والحصارات والحواجز والانحراف، فإن عمي الذي رحل قبل ايام هو من ذلك الجيل الذي بقيت ذكرياتهم هناك ملتصقة بالمكان، لم تزحزحها هموم السنين، ولا التغيرات الكثيرة والظروف الصعبة التي مرت، منذ أن كانت النكبة احد فصولها الاولى، ولم تنته بالنكسة الحروب الاخرى التي ما زالت تُشن على الشعب الفلسطيني بلا ذنب اقترفوه!
ولولا أن المرض تارة، وقلة الحيلة تارة اخرى لمَا تجرأ احد على منعه من مواصلة وصف التفاصيل الدقيقة لتلك السنوات القلائل التي امضاها هناك في قريتنا الصغيرة (عراق المنشية)، حتى إنني اعتقدت ذات يوم أن لنبتة الصبار التي كانت القرية مشهورة بزراعتها رائحة كرائحة الياسمين وليس لها اشواك.
لقد عاش عمي الذي كان من أواخر الشهود على نكبة جيل كامل، طُردوا وهُمّشوا وقتلوا باسم العالم الحر، وباسم الثورات التي أكلت أبناءها، وطالت أنيابها لتأكل حتى احفادها، وما حدث أن وعيه كلاجئ ازداد لجوءًا والتصاقًا لذلك المكان.
عمي خرج من قريته عراق المنشية جنوب الخليل عام 1948، وهو في ريعان الشباب، وصولا الى مخيم العروب حيث استطاع بعد ان عمل لسنوات في ليبيا تكوين عائلة، وبعد عناء واجتهاد كبيرين تمكن من جمع المال الكافي لتأسيس بيت صغير، وقبل ان يكمل بناؤه، قام اليهود بعد نكسة حزيران1967 بمنعه من الدخول الى فلسطين الى حيث كان يعمل مع الكثيرين من ابناء وطنه؛ الامر الذي اضطره إلى إخراج أسرته مع آلاف العائلات، ليستقر به المقام في إحدى الحارات الملتصقة جنوب عمان.
عاش عمي بقية حياته متنقلًا بين السعودية والاردن حيث كان يعمل في مجال البناء، مربيًا أبناءه الذين خاضوا معه تجربة الترحال.
الاردن كانت موطنه الثاني الذي منحه الاستقرار والراحة، إلا أن قلبه بقي معلقًا بنبتة الصبر، ورائحة التراب المعبق بذكريات واللجوء والمخيم!

عن محمد محيسن