الرئيسية / كتابات / “مُسلّمات” بحاجة للمراجعة

“مُسلّمات” بحاجة للمراجعة

كتب عريب الرنتاوي
ثمة مفاهيم يجري تداولها بلا تحفظ في الحياة السياسية الأردنية، تؤخذ كـ “مسلمات” مع أنها بحاجة للتدقيق والتمحيص، بل وأجزم أنها غير صحيحة ومفتعلة، فضلاً عن كونها تحلق أفدح الضرر بالحياة السياسية الوطنية، وتسهم في تعطيل، أو تقييد، الأدوار الدستورية لبعض السلطات، وتحديداً التشريعية منها… وإن أنت سألت عن أصل هذه “المسلمات” ومنبعها، أومأ لك محدثوك برؤوسهم للأعلى، في إشارة إلى مرجعيات عليا في الدولة، مع أنك تعرف تمام المعرفة، أن مضمون هذه المقولات ومعانيها، على أشد التعارض مع مضامين الأوراق النقاشية التي صدرت عن المرجعيات ذاتها.

من هذه المقولات، أن الحكومات في الأردن لا تتغير في الشارع، وأن مؤسسة القرار في الدولة الأردنية، لا تستجيب للضغط ولا تخضع للابتزاز، أو بتعبير آخر “لا يلوى ذراعها” بمظاهرة هنا أو اعتصام هناك.

من قال إن خروج مواطنين غاضبين للتعبير عن آرائهم بصورة سلمية ومنضبطة متحضرة، يندرج في سياق “ليّ الذراع” أو الضغط والابتزاز … الأردنيون في غالبيتهم الساحقة، ارتضوا طائعين وليس مكرهين، بالملكية نظاماً لهم، ومعارضاتهم على اختلاف مرجعياتها، تحت سقف الملك وتحت سقف الدستور … حتى في ذروة اهتياج ثورات الربيع العربي وانتفاضاته، ظل الأردنيون على مطالبتهم ب” إصلاح النظام”، وليس “إسقاطه” أو “تغييره” كما جرت الأحداث في العديد من الدول والمجتمعات المجاورة، ولم تكن الأصوات المحدودة التي غردت خارج سرب الإجماع الوطني الأردني هذا، سوى تأكيد للقاعدة وليس نفياً لها.

ولأن الأردنيين أعيتهم الوسيلة، عبر القنوات المؤسسية المعتادة، لإيصال آرائهم إلى صناع القرار، خرج بعضهم إلى الشوارع والميادين للتعبير عن احتجاجهم على بعض السياسات الحكومية … لا ينبغي للأمر أن يؤخذ بغير هذا المعنى أو أن يحمّل بخلاف ما يحتمل … التظاهر والاعتصام، حقوق أساسية للتعبير، كفلها الدستور ونظمتها القوانين للأردنيين جميعاً، ولم يخرق الأردنيون دستورهم أو يخرجوا عن قوانينهم، عندما خرجوا على نحو عفوي بدايةً، ولاحقاً بترتيب حزبي منظم، للتعبير عن آرائهم ومطالباتهم.

وما الذي سيبقى من “الديمقراطية” وحرية الرأي والتعبير، إذا نظرنا أو نظر بعضنا لمثل هذه الأشكال الاحتجاجية بصفتها ضرباً للدستور أو “ابتزازاً” أو عملية “لي ذرع”؟ … الحكومة تمارس ولايتها الدستورية وتثير قدراً من التأييد والمعارضة، والمجلس النيابي يقوم بوظائفه بصرف النظر عن اختلاف التقييم لأدواره وأدائه من حيث المستوى والسوية … والمواطنون يقررون بدورهم إن كان المجلس قد مثلهم أفضل تمثيل، أم أنهم بحاجة لوسائل وأشكال أخرى، لإيصال أصواتهم وتطلعاتهم وأشواقهم لصنّاع القرار في الدولة، فما المشكلة إذا، طالما أن الأمر يتم بمجمله، تحت هذه السقوف… أليست هذه هي “المواطنة الفاعلة” التي تحدث عنها الملك في أوراقه النقاشية؟

ثم، لماذا الافتراض بأن المسؤولين وحدهم هم من يعرف مصلحة البلاد والعباد، وأنهم وحدهم المؤتمنين على أمن البلاد واستقرارها … بل ولماذا الافتراض بإن الإصغاء لأصوات الناس، يجري في سياق “الخضوع للابتزاز”، ولماذا اختلاق هذه “المكاسرة” الوهمية للإرادات  بين المواطن والدولة… هذا كلام يسيء للنظام السياسي ويسيء للحكومات والبرلمانات والمواطنين على حد سواء … وأكاد أجزم بان معظم من خرج في عمان والمحافظات الأردنية معبراً عن سخطه واحتجاجه، لا يقلون وطنيةً وإخلاصاً للدولة والوطن والنظام السياسي من طبقة النخبة والمسؤولين في المؤسسات العامة ومراكز صنع القرار في الدولة.

تزداد هذه المقولة بؤساً عندما تقترن بمقولة ثانية، لا نكف عن ترديدها، دون ان نتمحص معانيها ودلالاتها بدقة، ألا وهي أن الحكومة والبرلمان توأمان، يأتيان سويةً إلى الدوار الرابع والعبدلي ويغادران سوية … لقد فرحنا بالتعديل الدستوري في العام 2011 الذي نص على أن الحكومة التي تُنسب بحل المجلس، ترحل في غضون أسبوع من حله … لكننا لم نعثر على أي نص دستوري يحتم حل المجلس إن هو حجب الثقة عن الحكومة … هذه التوأمة بين مدة ولاية المجلس والحكومة، تصب في صالح الحكومات وحدها وتعزز تغوّلها، وتعطل دور المجلس النيابي، وتسلبه إحدى أهم أدواته الرقابية.

تزداد الصورة وضوحاً عندما يصرح رؤساء الحكومات، بأنهم يفضلون قيام المجلس بحجب الثقة عن حكوماتهم، على أن يسمحوا له بالتغوّل على الحكومة أو التدخل في “ولاياتها العامة” … هم يدركون سلفاً أن لديهم أغلبية مريحة في مجالسنا النيابية المتعاقبة، حتى لا نقول أغلبية مضمونة … والأهم، أن أصحاب الدولة، يدركون تمام الإدراك، أن المجلس النيابي سيفكر ملياً قبل أن يطلق النار على أقدام أعضائه وعضواته … سيف الحل الذي يُشهر في وجه المجلس، يعطل “تفويضه الدستوري” كذلك، ويفقده إحدى أهم وأبرز أدواته الرقابية: حجب الثقة، واستتباعاً يضعف دوره التمثيلي في التعبير عن تطلعات ناخبيه وأشواقهم.

إن كان المواطن غير الراضي عن أداء الحكومة، لا يثق أصلاً بالمجلس النيابي كسلطة فاعلة للرقابة والتشريع والتمثيل، كما تدلل على ذلك دراسات ومعطيات عديدة … وإذا كان المجلس قد سُلبت منه إحدى أهم وأمضى أدواته وأسلحته، فكيف سيثق المواطن بأنه صوته سيصل إلى صناع القرار، وما هي الأدوات المتبقية له للتعبير عن آرائه، وكيف سيستعيد المجلس النيابي ثقة المواطنين ومكانته بينهم، وكيف يمكن للأردنيين أن يستردوا ثقتهم بصناديق الاقتراع، وأن يقبلوا زرافات ووحدانا عليها يوم “الانتخاب العظيم”؟

كان الأردنيون على موعد مع الحكومات البرلمانية منذ عدة سنوات، وأجرينا إصلاحات دستورية تمهيدية واستباقية لجعل هذا الأمر ممكناً … الأردنيون يذهبون إلى صناديق الاقتراع وليس لديهم الأمل بان الحكومات القادمة ستنبثق عن تيار الأغلبية الذي اختاروه في المجلس، فإن كانوا عاجزين عن الاتيان بالحكومات التي يريدونها بانتخابات حرة ونزيهة، فهل أقل من أن تكون لهم، عبر مجلسهم المنتخب، صلاحية حجب الثقة عن الحكومات التي لا يريدونها، أليس هذا حقاً لهم، كفله الدستور؟

الطبقة السياسية الأردنية، تشكو تغوّل السلطة التنفيذية على بقية السلطات الدستورية في البلاد، فهل “تلازم مصيري الحكومة ومجلس النواب” يخدم في تخفيف هذا التغول، واستعادة “توازن” السلطات والفصل بينها، أم أنها وسيلة لتكريس هذا التغوّل وتأبيده؟ … أسئلة وتساؤلات برسم الطبقة السياسية الأردنية، على اختلاف مشاربها ومرجعياتها.

عن محمد محيسن