الصورة على معبر رفح قبل الدخول الى غزة .. بعد ساعات من الانتظار
كتب- محمد محيسن
كان بمقدوره ان يكون من احد أصحاب الشركات الكبيرة التي بدأت مبكرا في مجال الصناعة، وخصوصا ان علاقاته وصلت الى اعلى المستويات، ولكنه اختار شيئا بعيدا عن ذلك كله، اختار ان يكون جنديا مقاتلا مدافعا عن قضية وطنه، الذي خرج منه وهو ابن ثمان سنوات.
ليس هذا وحسب بل عندما وصل مرحلة ان يكون قائدا اختار ان يكون بعيدا عن الانظار مناضلا في صفوف الجبهة الشعبية، التي تطوع للنضال معها منذ أوائل الستينات من القرن الماضي.. حيث أمنه الحكيم «جورج حبش» على أمنه الشخصي، وأمن الكثير من رفاقه في مرحلة كانت هي الأخطر على القضية الفلسطينية.
عمر داوود الطحلة لا احد يعرفه بهذا الاسم فقد كان معروفا بـ»ابو جورج المسلم»، خاض الكثير من المعارك التي يعرفها الناس جميعا، ولكنهم ابقوا بطولاتهم طي الكتمان حرصا على قدسية القضية التي اختاروا ان يكونوا جنودا لها، مناضلين مضحين بالغالي والنفيس ولكن دون ضجيج او بهرجة كاذبة.
ابو جورج المسلم، او العم ابو خليل الاسم الذي عرف به خلال جهاده لكسر الحصار عن غزة، استهواه العمل السري بين صفوف الجبهة مشاركا في الكثير من عملياتها الفدائية. في هذه المرحلة التي انطوت على صفحات عز ونضال، تفتحت صفحاتها ابتداء من هجرته القصرية رحلة الشتات من مدينة الرملة حيث ولد، وامتدت الى غزة فعمان ودمشق وبيروت، سائر بلاد المعمورة، ولم يضع عصا الترحال بعد، حيث كانت غزة التي شارك مقاتلا في فك الحصار عنها من خلال قوافل انصار 1 وشريان الحياة 5، واخيرا قافلة انصار 3. ولا يزال تواقا لها رغم المشقة التي تواجه رجل اثقله هم السنين، وأعياه ظلم ذوي القربى للمشاركة في قافلة انصار 4، التي ستتوجه الى غزة في نيسان القادم ليكون عميدا للمشاركين في قوافل كسر الحصار.
كانت بدايته مع حركة القومين العرب التي دخلها طفلا يانعا، بعد مرارة الخروج من مدينة الرملة التي ولد فيها، ولم يتمتع بحنين ترابها او هوائها العذب، ولكنه بقي مشتاقا الى النهاية.. عاشقا لسمائها وأرضها والى بحر غزة التي ودع فيها الكثير من الرفاق والأحباب، وما زال الحنين يدفعه دفعا الى الهجرة اليها كلما استطاع جمع ما امكن من مساعدات.
اما عمان التي احتضنته شابا يافعا فقد شكلت له مع رفاقه من الكرك واربد والطفيلة والزرقاء ومعان، بداية لمرحة طويلة وقاسية من النضال والسجن والتعذيب، استمرت حتى أضناه تعب العمر، واثقلت كاهله السنين ليتوقف متأملا مشتاقا متحفزا مربيا لأبنائه الذين لم يروه الا نادرا في تلك المرحلة.
بدأ مشواره النضالي في عام 1957 عندما استقطبه شباب قالوا له اننا أشخاص نعمل من اجل فلسطين، في هذه المرحة تجذر وعي عمر الطحلة النضالي حيث كانت الوحدة والحرية شعارهم. وفي هذه المرحلة تعلم ابو خليل استعمال السلاح والمشاركة بما تيسر من عمليات الرصد والإغارة والتمويه.
وبعد معركة الكرامة المجيدة التي جاءت بعد نكسة حزيران انضم الى الجبهة الشعبية، مشاركا في اغلب معاركها النضالية، اسوة بباقي فصال المقاومة الفلسطينية، حيث كانت مشاركته الأولى معركة الكرامة التي اختلط فيها الدم الأردني بالفلسطيني في ملحمة يشهد لها التاريخ.
استمر ابو خليل في صفوف الجبهة الشعبية متنقلا معها في كافة الساحات، وكان مسؤولا عن الأمن حيث تخصص في اصطياد الجواسيس والإيقاع بهم، فكان محل ثقة وديع حداد احد القياديين الكبار المسؤول عن عشرات العمليات في داخل وخارج فلسطين.
وكان مخيم الوحدات ومخيم الحسين وبقية مخيمات الشتات الفلسطيني مكان للعمل السري في سبعينات القرن الماضي.
بعد ذلك عمل ابو خليل في احد الشركات الكبرى التي تعمل في الحديد والألمنيوم التي برع فيها، فكانت احد السواتر التي اخفت شخصيته النضالية الحقيقة، وفي هذه الفترة استطاع ابو خليل تأسيس أسرة وتعليم أبنائه الثمانية.
في ثمانينات القرن الماضي عاد ابوخليل الى عمان وعمل على إنشاء شركة، ولم يتوقف عطاؤه فعندما وقعت حرب الخليج الاولى تحرك حسه القومي مرة اخرى؛ فقام بتجهيز شاحنتين من المواد الغذائية والذهاب بهما إلى العراق تحت القصف.
خلال هذه الفترة أيضا كانت المعاناة مع الأجهزة الأمنية، ولكن المعاناة الأكبر كانت في انحراف الثورة الفلسطينة التي بدأت بالابتعاد عن مسارها الصحيح، ووقعت على اتفاقية اوسلو وما تلاها من اتفاقيات .. وهنا توقف ابو خليل عن أي علاقة بالفصائل الفلسطينية.
ابوخليل، او ابو جورج المسلم او عمر الطحلة الذي تجاوز السبعين من العمر، لم يتوقف نضاله عند هذا الحد، فقد حركت الحرب التي قام بها الكيان الصهيوني على غزة اواخر عام 2008 مكامن النضال في دواخله، فلم يدخر جهدا ولا وسيلة إلا سلكها لكسر الحصار عن القطاع، مساهما بأغلب القوافل التي شاركت بها النقابات المهنية .. فغزة بالنسبة له الأمل العَلَم والحلم الكبير في التحرير.
ومؤخرا وثّق ابوخليل بعض ماسمحت له الامانة النضالية بنشره في كتاب اسماه «رحلة الشتات والنضال»، استذكر فيه والده المناضل الرملاوي داوود الطحلة، والبعض اليسير من تاريخ النضال الفلسطيني الممنوع من النشر.cialis super active france