تمكن أتباع محمد بن عبدالوهاب من السيطرة على اجزاء واسعة من الجزيرة العربية وخصوصا في منطقة نجد، الا ان مهاجمتهم مدينة كربلاء عام 1801 وهدم قبة الضريح الموجود فيها؛ دفع الدولة العثمانية الى البدء بإجراءات لقمع التهديد الذي باتت الحركة تمثله؛ فالدولة العثمانية استشعرت خطرا يتهدد الاسس والايدولوجيا التي قامت عليها؛ والسلم الاجتماعي الذي تمكنت من صياغته في العراق والحجاز والشام، فأمام قوة القبائل العربية في الجنوب العراقي من شمر وعنزة وغيرها وجدت الدولة العثمانية في التشيع وسيلة فاعلة لتحييد العشائر العراقية الجنوبية القوية وتعزيز المرجعية في النجف كمعادل ومنافس للمرجعية الفارسية في قم.
مهاجمة الحركة الوهابية لكربلاء عام 1801 وغض الدولة العثمانية الطرف عن انتشار التشيع في جنوب العراق يدفع نحو مزيد من التعمق بأيدولوجيا الدولة العثمانية وتوجهاتها السياسية والفكرية؛ فمن خلال العودة بالزمن 300 عام للخلف وتحديدا العام 1514 نستطيع ان نتعرف على بعض ملالمح التطور السياسي والفكري للدولة العثمانية تجاه المذاهب والنحل وتجاه العامة؛ اذ التقت جيوش اسماعيل الصفوي وجيوش السلطان سليم الاول في معركة سميت «جالدايران» انتهت بهزيمة نكراء للصفويين؛ لتزحف جيوش سليم الاول نحو طهران فتحتلها وتحتل اجزاء واسعة من ايران.
راهن اسماعيل الصفوي على تعاطف العامة معه باعتباره مدافعا عن البيت من ناحية ومن ناحية اخرى تخلص من سلطة اي فقيه يرغب بممارسة الرقابة؛ لصالح مذهب يفوض امر العامة والخاصة الى حين ظهور المهدي في اخر الزمان؛ تاركا العمل السياسي والسلطة والاقتصاد وكل شيء للحاكم.
اراد اسماعيل ان يستغل هذا الجانب في معركته فالغالبية الكبرى من جيوش آل عثمان من الصوفية المتعاطفة مع ال البيت والشيعة بل ان جزءا مهما من نواحي تركيا كان متشيعا وكثير من العرق التركي كذلك؛ كحال اذربيجان وتركمستان وغيرها؛ فسر انسحاب جيش السلطان سليم الاول من طهران بتذمر الجند من هذه الحرب وغاياتها ومن مقاومة اسماعيل للوجود التركي الا ان الخشية من تمرد القوات التركية كان اكبر هواجس السلطان سليم؛ ما جعل من تكتيك اسماعيل الصفوي ناجحا وتم تبنيه فيما بعد من ملوك ايران ما كرس الهوية الطائفية الشيعية للدولة الصفوية والحكم المستبد الى ان اندلعت الثورة الايرانية وطبق مبدأ ولاية الفقيه كبديل لانتظار المهدي؛ في حين كرست الدولة العثمانية مبدأ التصوف والإرجاء.
لم تمانع الدولة العثمانية من قيام مراجع وعلماء شيعة اذريين « اذربيجان « (اصول تركية) بالاستقرار في العراق ونشر التشيع الذي كان يدعو الى انتظار عودة المهدي الامام الثاني عشر، وضرورة التعايش مع انظمة الحكم الى حين ظهوره؛ كما شجعت التصوف لذات الغايات الإرجائية والتفويضية؛ لتحقق بذلك غاية اخرى وهو تقوية المرجعية الشيعية العربية في النجف في مواجهة المرجعية الفارسية في قم؛ امر بات مهددا بصعود الحركة الوهابية وتحالفها مع آل سعود في الدرعية بنجد فالتحرك الوهابي لم يكن مجرد طموح شخصي، بل توجها فكريا وايدولوجيا مناهضا ايدولوجيا الدولة وسياستها الادارية.
ما احدثته الحركة الوهابية انها هزت هذه الايدولوجيا القائمة على التفويض والارجاء والتي عملت الدولة العثمانية على تكريسها من خلال نشر التصوف تارة او نشر التسشيع تارة اخرى بين القبائل العربية جنوب العراق لخلق حالة من الارجاء والتفويض في انتظار المخلص اخر الزمان.
لا يمكن تقييم ما فعله محمد بن عبد الوهاب قبل 300 عام من الان وفق معاير عصرنا بالمطلق من ناحية البيئة السياسية والاجتماعية المتبدلة، الا أنه مثل بكل ما تعنيه الكلمة تهديدا لأيدولوجيا السلطة وتوجهاتها، وهو امر انتهى بتدخل مصري بطلب من الباب العالي لتدخل جيوش محمد علي الحجاز وتنهي ولو مؤقتا دولة ال سعود في العام 1818.
الا ان حملة محمد علي حفزته لغزو السودان وافريقيا بدواع استعمارية اقتصادية لرفد جيشه بقوة عسكرية مستقلة من العبيد تعينه على مقارعة خصومه ليس في الحجاز بل في مصر ايضا ما يذكر بقصة السلطان احمد المنصور في المغرب المشار اليها في المقال السادس؛ غزو السودان الذي مهد لحركة جديدة وهي الحركة المهدية المستاءة من الحكم المصري الذي ازداد سوءا بعد تنامي النفوذ البريطاني في مصر؛ ما ادى تحول النزعة الصوفية التفويضية الارجائية لدى صوفية السودان الى مهدوية ذات طابع قومي تدعو للانتفاض على الظلم مبشرة بظهور المهدي..
سنتوقف في هذه المقال عند هذا التطور التاريخي في تطور التوجهات السياسية والفكرية في الحضارة الاسلامية التي زاوجت بين المدراس الفكرية والسياسية الاسلامية تارة، مخلفة تشوهات سياسية وفكرية، وتارة لتكريس السلطة، وتارة اخرى في محالة لتجديده والانتفاض عليه؛ امر سنتابعه في المقال القادم مع الرسم البياني المناسب.cialis black capsules
